فصل: ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المنتظم في تاريخ الملوك والأمم **


 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين ومائتين

فمن الحوادث فيها‏:‏ أنه في المحرم وافى أبو أحمد الموفق من الجبل إلى العراق فتلقاه الناس بالنهروان فركب الماء وسار في النهروان ثم في نهر ديالي ثم في دجلة وكان مريضًا بالنقرس ودخل داره في أوائل صفر ثم توفي بعد أيام وطلع لليلتين بقيتا من المحرم كوكب ذو جمة ثم صارت الجمة ذؤابة وخلع على عبد الله بن سليمان بن وهب وولي الوزارة ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غار ماء النيل وكان شيئًا لم يعهد مثله ولا بلغ في الأخبار السالفة ‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة هارون بن محمد الهاشمي ‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بحركة قوم يعرفون بالقرامطة وهم الباطنية وهؤلاء قوم تبعوا طريق الملحدين وجحدوا الشرائع وأنا أشير إلى البدايات التي بنوا عليها ثم إلى الباعث لهم على ما فعلوا من نصب دعوتهم ثم إلى ألقابهم ثم إلى مذاهبهم وعلومهم ‏.‏

فأما البدايات التي بنوا عليها‏:‏ فإنه لما كان مقصودهم الإلحاد تعلقوا بمذاهب الملحدين مثل‏:‏ زرادشت ومزدك فإنهما كانا ينتحلان المحظورات وقد سبق في أوائل هذا الكتاب شرح حالهما وما زال أكثر الناس مع إعراضهم لا يدخلون في حجر يمنعهم إياها فلما جاء نبينا محمد صلى الله فقهر الملل وقمع الإلحاد أجمع جماعة من الثنوية والمجوس والملحدين ومن دان بدين الفلاسفة المتقدمين فأعلموا قد ثبت عندنا أن جميع الأنبياء كذبوا وتخرقوا على أممهم وأعظم كل بلية علينا محمد صلى الله عليه وسلم فإنه تبع من العرب الطغام فخدعهم بناموسه فبذلوا أموالهم وأنفسهم ونصروه وأخذوا ممالكنا وقد طالت مدتهم والآن قد تشاغل أتباعه فمنهم مقبل على كسب الأموال ومنهم على تشييد البنيان ومنهم على الملاهي وعلماؤهم يتلاعبون ويكفر بعضهم بعضًا وقد ضعفت بصائرهم فنحن نطمع في إبطال دينهم إلا أنا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم وليس فيهم فرقة أضعف عقولًا من الرافضة فندخل عليهم ونذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم ودفعهم عن حقهم وقتلهم وما جرى عليهم من الذل لنستعين بها ولا على إبطال دينهم فتناصروا وتكاتفوا وتوافقوا وانتسبوا إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد بن الصادق وكان لجعفر أولاد منهم‏:‏ إسماعيل هذا وكان يقال له‏:‏ إسماعيل الأعرج ‏.‏

ثم سول لهم الشيطان آراء ومذاهب وأخذوا بعضها من المجوس وأخذوا بعضها من الفلاسفة وتخرقوا على أتباعهم وإنما قصدهم الجحد المطلق لكنهم لما لم يمكنهم توسلوا إليه فقد بان لك بما ذكرت ‏.‏

ومن البدايات التي بنوا عليها والباعث لهم على ما فعلوا من نصب الدعوة ‏.‏

وأما ألقابهم‏:‏ فإنهم يسمون الإسماعيلية والباطنية والقرامطة والخرميه والبابكية والمحمرة والسبعية والتعليمية ‏.‏

فأما تسميتهم بالاسماعيلية‏:‏ فانتسابهم إلى إسماعيل بن جعفر على ما ذكرناه ‏.‏

وأما تسميتهم بالباطنية‏:‏ فإنهم ادعوا أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر وأنها توهم الأغبياء صورًا وتفهم الفطناء رموزًا وإشارات إلى حقائق خفية وأن من تقاعد عن العرض على الخفايا والبواطن متعثر ومن ارتقى إلى علم الباطن انحط عنه التكلف واستراح من إعيائه واستشهدوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم‏}‏ قالوا‏:‏ والجهال بذلك هم المرادون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فضرب بينهم بسور له باب‏}‏ وغرضهم فيما وضعوا من ذلك‏:‏ إبطال الشرائع لأنهم إذا صرفوا العقائد عن غير موجب الظاهر فحكموا بدعوى الباطن على ما يوجب الانسلاخ من الدين ‏.‏

وأما تسميتهم بالقرامطة‏:‏ ففي سبب ذلك ستة أقوال‏:‏ أحدها‏:‏ أنهم سموا بذلك لأن أول من أسس لهم هذه المحنة محمد الوراق المقرمط وكان كوفيًا ‏.‏

والثاني‏:‏ أن لهم رئيسًا من السواد من الأنباط يلقب بقرموطويه فنسبوا إليه ‏.‏

والرابع‏:‏ أن بعض دعاتهم نزل برجل يقال له كرمية فلما رحل تسمى قرمط بن الأشعب ثم أدخله في مذهبه ‏.‏

الخامس‏:‏ أن بعض دعاتهم رجل يقال له‏:‏ كرمية فلما رحل تسمى باسم ذلك الرجل ثم خفف الاسم فقيل‏:‏ قرمط قال أهل السير‏:‏ كان ذلك الرجل الداعي من ناحية خوزستان وكان يظهر الزهد والتقشف ويسف الخوص ويأكل من كسبه ويحفظ القوم ما صرموا من نخلهم في حظيرة ويصلي أكثر الناس ويصوم ويأخذ عند إفطاره من البقال رطلًا من التمر فيفطر عليه ويجمع نواه فيدفعه إلى البقال ثم يحاسبه على ما أخذ منه ويحط من ذلك ثمن النوى ‏.‏

فسمع التجار الذين صرموا نخلهم فوثبوا عليه وضربوه وقالوا‏:‏ لم ترض بأن أكلت التمر حتى بعت النوى ‏.‏

فأخبرهم البقال في الحال فندموا على ضربه وسألوه الإحلال فازداد بذلك نبلًا عند أهل القرية وكان إذا قعد إليه إنسان ذاكره أمر الدين وزهده في الدنيا وأعلمه أن الصلاة المفروضة على الناس خمسون صلاة في كل يوم وليلة ثم أعلم الناس أنه يدعو إلى إمام أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مرض ومكث مطروحًا على الطريق وكان في القرية رجل يحمل على أثوار له وكان أحمر العينين وكان أهل القرية يسمونه كرميته لحمرة عينيه وهو بالنبطية‏:‏ حار العينين فكلم البقال كرميته هذا في أن يحمل هذا العليل إلى منزله ويوصي أهله الإشراف عليه والعناية به ففعل فأقام عنده حتى برئ ثم كان يأوي إلى منزله ودعا أهل القرية إلى أمره فأجابوه وكان يأخذ من الرجل إذا دخل في دينه دينارًا ويزعم أنه يأخذ ذلك الإمام فمكث أهل القرى فيجيبونه واتخذ منهم اثني عشر نقيبًا وأمرهم أن يدعوا الناس إلى دينه وقال لهم‏:‏ أنتم كحواري عيسى بن مريم عليهما السلام فشغل أكرة تلك الناحية على أعمالهم بما رسمه لهم من الخمسين صلاة التي ذكر أنها فرضت عليهم ‏.‏

وكان للهيصم في تلك الناحية ضياع فوقف على تقصير أكرته في العمارة فسأل عن ذلك فأخبر أن رجلًا قدم عليهم فأظهر لهم مذهبًا من الدين وأعلمهم أن الله عز وجل قد افترض عليهم خمسين صلاة في اليوم والليلة وقد اشتغلوا بها فوجه إليه فجيء به فسأله عن أمره فأخبره بقصته وأقفل عليه وترك المفتاح تحت وسادته ونام فرقت له جارية فأخذت المفتاح وفتحت وأخرجته ثم أعادت المفتاح إلى موضعه فلما أصبح الهيصم فتح الباب فلم يجده فشاع ذلك الخبر فعبر به أهل تلك الناحية وقالوا‏:‏ قد رفع ليس يمكن أحدًا أن يؤذيني ‏.‏

ثم خاف على نفسه وخرج إلى الشام وتسمى باسم الرجل الذي كان في منزله كرميته ثم خفف فقيل‏:‏ قرمط وفشا أمره وأمر أصحابه وكان قد لقي صاحب الزنج فقال له‏:‏ أنا على مذهب ورائي مائة ألف سيف فناظرني فإن اتفقنا ملت بمن معي إليك وإن تكن الأخرى انصرفت فناظره فاختلفا ففارقه ‏.‏

السادس‏:‏ أنهم لقبوا بهذا نسبة إلى رجل من دعاتهم يقال له‏:‏ حمدان بن قرمط وكان حمدان هذا من أهل الكوفة يميل إلى الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية في طريق وهو متوجه إلى قرية وبين يديه بقر يسوقها فقال حمدان لذلك الداعي وهو لا يعرفه‏:‏ أين تقصد فسمى قرية حمدان فقال له‏:‏ اركب بقرة من هذه البقر لتستريح من المشي ‏.‏

فقال‏:‏ إني لم أؤمر بذلك‏:‏ قال كأنك لا تعمل إلا بأمر قال‏:‏ نعم‏!‏ فقال حمدان‏:‏ وبأمر من تعمل قال‏:‏ بأمر مالكي ومالكك ومالك الدنيا والآخرة فقال‏:‏ صدقت قال‏:‏ وما غرضك في هذه البقعة قال‏:‏ أمرت أن أدعو أهلها من الجهل إلى العلم ومن الضلال إلى الهدى ومن الشقاوة إلى السعادة وأستنقذهم من ورطات الذل والفقر وأملكهم ما لا يستغنون به من التعب والكد فقال له حمدان‏:‏ أنقذني أنقذك الله وأفض علي من العلم ما تحييني به فما أشد حاجتي إلى ذلك فقال‏:‏ ما أمرت أن أخرج السر المكنون إلى كل أحد إلا بعد الثقة به والعهد إليه فقال له‏:‏ فاذكر عهدك فإني ملتزم به ‏.‏

فقال‏:‏ أن تجعل لي وللإمام على نفسك عهد الله وميثاقه أن لا تخرج سر الإمام الذي ألقيه إليك ولا تفشي سري أيضًا ‏.‏

فالتزم حمدان عهده ثم اندفع الداعي في تعليمه فنون جهل حتى استدرجه واستغواه واستجاب له في جميع ما دعاه إليه ثم انتدب للدعوة وصار أصلًا من أصول هذه البدعة فسمى أتباعه القرمطية ‏.‏

وأما تسميتهم بالخرمية‏:‏ فإن خرم لفظ أعجمي ينبئ عن الشيء المستلذ الذي يشتهيه الآدمي وكان هذا لقبًا للمزدكية وهم أهل الإباحة من المجوس الذين نبغوا في أيام قباذ على ما ذكرنا

وأما تسميتهم بالبابكية‏:‏ فإن طائفة منهم تبعوا بابك الخرمي وكان قد خرج في ناحية آذربيجان في أيام المعتصم واستفحل فبعث إليه المعتصم الافشين فتخاذل عن قتاله وأضمر موافقته في ضلاله فاشتدت وطأة البابكية على المسلمين إلى أن أخذ بابك وقتل على ما سبق شرحه ‏.‏

وقد بقي من البابكية جماعة يقال إن لهم في كل سنة ليلة يجتمع فيها رجالهم ونساؤهم فيطفئون المصابيح ويتناهبون النساء ويزعمون أن من أخذ امرأة استحلها بالاصطياد ‏.‏

فأما تسميتهم بالمحمرة‏:‏ فيذكر عنهم أنهم صبغوا الثياب بالحمرة أيام بابك وكانت شعارهم ‏.‏

وأما تسميتهم بالسبعية‏:‏ فإنهم زعموا أن الكواكب السبعة مدبرة للعالم السفلي ‏.‏

وأما تسميتهم بالتعليمية‏:‏ فإن مبدأ مذاهبهم إبطال الرأي وإفساد تصرف العقل ودعوة الخلق إلى التعليم من الإمام المعصوم وأنه لا مدرك للعلوم إلا بالتعليم ‏.‏

فصل وأما الإشارة إلى مذاهبهم‏:‏ فإن مقصودهم الإلحاد وتعطيل الشرائع وهم يستدرجون الخلق إلى مذاهبهم بما يقدرون عليه فيميلون إلى كل قوم بسبب يوافقهم ويميزون من يمكن أن ينخدع ممن لا يمكن فيوصون دعاتهم فيقولون للداعي‏:‏ إذا وجدت من تدعوه فاجعل التشيع دينك ادخل عليه من جهة ظلم الأمة لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقتلهم الحسين وسبيهم لأهله والتبرئ من تيم وعدي وبني أمية وبني العباس وقل بالرجعة وأن عليًا يعلم بالغيب فإذا تمكنت منه أوقفته على مثالب علي وولده وبينت له بطلان ما عليه أهل ملة محمد عليه السلام وغيره من الرسل عليهم السلام وإن كان يهوديًا فادخل عليه من جهة انتظار المسيح وأن المسيح هو محمد بن إسماعيل بن جعفر وهو المهدي واطعن في النصارى والمسلمين وإن كان نصرانيًا فاعكس وإن كان صابئيًا فتعظيم الكواكب وإن كان مجوسيًا فتعظيم النار والنور وإن وجدت فيلوسوفيًا فهم عمدتنا لأنا نتفق وهم على إبطال نواميس الأنبياء وعلى قدم العالم ومن أظهرت له التشيع فأظهر له بغض أبي بكر وعمر ثم أظهر له العفاف والتقشف وترك الدنيا والإعراض عن الشهوات ومر بالصدق والأمانة والأمر بالمعروف فإذا استقر عنده ذلك فاذكر له زلل أبي بكر وعمر وإن كان سنيًا فاعكس وإن كان مائلًا إلى المجون والخلاعة فقرر عنده أن العبادة بله والورع حماقة وإنما الفطنة في اتباع اللذة وقضاء الوطر من الدنيا الفانية ‏.‏

وقد يستصحبون من له صوت طيب بالقرآن فإذا قرأ تكلم داعيهم ووعظ وقدح في السلاطين وعلماء الزمان وجهال العامة ويقول‏:‏ الفرج منتظر ببركة آل الرسول صلى الله عليه وسلم وربما قال‏:‏ ومن مذاهبهم أنهم لا يتكلمون مع عالم ويجتهدون في تزلزل العقائد بإلقاء المتشابه وكل ما لا يظهر للعقول معناه فيقولون‏:‏ ما معنى الاغتسال من المني دون البول ولم كانت أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وقوله‏:‏ ‏{‏عليها تسعة عشر‏}‏ أترى ضاقت القافية ما نظن هذا إلا لفائدة لا يفهمها كثير من الناس ويقولون‏:‏ لم كانت السموات سبعًا ثم يشوقون إلى جواب هذه الأشياء فإن سكت السائل سكتوا وإن ألح قالوا‏:‏ عليك بالعهد والميثاق على كتمان هذا السر فإنه الدر الثمين فيأخذون عليه العهود والميثاق على كتمان هذا ويقولون في الأيمان ‏"‏ وكل مالك صدقة وكل امرأة لك طالق ثلاثًا إن أخبرت بذلك ‏"‏ ثم يخبرونه ببعض الشيء ويقولون‏:‏ هذا لا يعلمه إلا آل رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

ويقولون‏:‏ هذا الظاهر له باطن وفلان يعتقد ما نقول ولكنه يستره ويذكرون له بعض الأفاضل ولكنه ببلد بعيد ‏.‏

فصل واعلم أن مذهبهم ظاهره الرفض وباطنه الكفر ومفتتحه حصر مدارك العلوم في قول الإمام المعصوم وعزل العقول أن تكون مدركة للحق ولما يعترضها من الشبهات والمعصوم يطلع من جهة الله تعالى على جميع أسرار الشرائع ولا بد في كل زمان من إمام معصوم يرجع إليه هذا مبدأ دعوتهم ‏.‏

ثم يبين أن غاية مقصدهم نقض الشرائع لأن سبيل دعوتهم ليس متعينًا في واحد بل يخاطبون كل فريق بما يوافق رأيه لأن عرضهم الاستتباع وقد بث عنهم أنهم يقولون بإلهين قديمين لا أول لوجودهما من حيث الزمان إلا أن أحدهما علة لوجود الثاني واسم العلة السابق واسم المعلول التالي وأن السابق خلق العالم بواسطة التالي لا بنفسه وقد يسمون الأول عقلًا والثاني نفسًا والأول تامًا والثاني ناقصًا والأول لا يوصف بوجود ولا عدم ولا موصوف ولا غير موصوف فهم يؤمنون إلى النفي لأنهم لو قالوا معدوم ما قبل منهم وقد سموا هذا النفي تنزيهًا ومذهبهم في النبوات قريب من مذهب الفلاسفة وهو أن النبي عبارة عن شخص فاضت عليه من العقل السابق بوساطة الثاني قوة قدسية صافية وأن جبريل عبارة عن العقل الفائض إليه لا أنه شخص وأن القرآن هو تعبير محمد عن المعارف التي فاضت عليه من العقل فسمي كلام الله مجازًا لأنه مركب من جهته وهذه القوة الفائضة على النبي لا تفيض عليه في أول أمره واتفقوا على أنه لا بد في كل عصر من إمام معصوم قائم بالحق يرجع إليه في تأويل الظواهر وحل الإشكال في القرآن والأخبار وأنه يساوي النبي في العصمة ولا يتصورون في زمان واحد إمامان بل يستظهر الإمام بالدعاة وهم الحجيج ولا بد للإمام من اثني عشر حجة أربعة منهم لا يفارقونه ‏.‏

وكلهم أنكر القيامة وقالوا‏:‏ هذا النظام وتعاقب الليل والنهار وتولد الحيوانات لا ينقضي أبدًا وأولوا القيامة بأنها رمز إلى خروج الإمام ولم يثبتوا الحشر ولا النشر ولا الجنة ولا النار ومعنى المعاد عندهم عود كل شيء إلى أصله قالوا‏:‏ فجسم الآدمي يبلى والروح إن صفت بمجانبة الهوى والمواظبة على العبادات وغذيت بالعلم سعدت بالعود إلى وطنها الأصلي وكمالها بموتها إذ به خلاصها من ضيق الجسد ‏.‏

وأما النفوس المنكوسة المغموسة في عالم الطبيعة المعرضة عن طلب رشدها من الأئمة المعصومين فإنها أبدًا في النار على معنى أنها تتناسخ في الأبدان الجسمانية وكلما فارقت جسدًا تلقاها آخر واستدلوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها‏}‏ وأكثر مذاهبهم يوافق الثنوية والفلاسفة في الباطن والروافض في الظاهر وغرضهم بهذه التأويلات ثم أنهم يعتقدون استباحة المحظورات ورفع الحجر ولو ذكر لهم هذا لأنكروه وقالوا‏:‏ لا بد من الانقياد للشرع على ما يفعله الإمام فإذا أحاطوا بحقائق الأمور انحلت عنهم القيود والتكاليف العملية إذ المقصود عندهم من أعمال الجوارح تنبيه القلب وإنما تكليف الجوارح للخمر الذين لا يراضون إلا بالسياقة وغرضهم هدم قوانين الشرع ‏.‏

قالوا‏:‏ وكل ما ذكر من التكاليف فرموز إلى باطن فمعنى الجنابة مبادرة المستجيب بإنشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة الاستحقاق لذلك ومعنى الغسل تجديد العهد على من فعل ذلك ‏.‏

والزنا‏:‏ إلقاء نطفة العلم الباطن إلى نفس من لم يسبق معه عقد العهد والاحتلام أن يسبق الإنسان إلى إفشاء السر في غير محله والصيام‏:‏ الإمساك عن كشف السر ‏.‏

والمحرمات عبارة عن ذوي السر والبعث عندهم الاهتداء إلى مذاهبهم ‏.‏

ويقولون ‏{‏للذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏ الذكر الإمام والحجة الأنثى ‏.‏

وقالوا‏:‏ ‏{‏يوم يأتي تأويله‏}‏ أي يظهر محمد بن إسماعيل ‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏حرمت عليكم الميتة‏}‏‏.‏

قالوا‏:‏ وقالوا‏:‏ إن الشاء والبقر التي تذبح هم الذين حضروا محاربة الأنبياء والأئمة يترددون في هذه الصور ويجب على الذابح أن يقول عند الذبح اللهم إني أبرأ إليك من روحه وبدنه وأشهد له بالضلالة اللهم لا تجعلني من المذبوحين ‏.‏

ولهم من هذا الهذيان ما ينبغي تنزيه الوقت عن ذكره وإنما علمت هذه الفضائح من أقوام تدينوا بدينهم ثم بانت لهم قبائحهم فتركوا مذهبهم ‏.‏

فإن قال قائل مثل هذه الاعتقادات الركيكة والحديث الفارغ كيف يخفى على من يتبعهم ونحن نرى أتباعهم خلقًا كثيرًا فالجواب أن أتباعهم أصناف فمنهم قوم ضعفت عقولهم وقلت بصائرهم وغلبت عليهم البلادة والبله ولم يعرفوا شيئًا من العلوم كأهل السواد والأكراد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث فلا يستبعد ضلال هؤلاء فقد كان خلق ينحتون الأصنام ويعبدونها ‏.‏

ومن أتباعهم طائفة انقطعت دولة أسلافهم بدولة الإسلام كأبناء الأكاسرة والدهاقين وأولاد المجوس فهؤلاء موتورون قد استكن الحقد في صدورهم فهو كالداء الدفين فإذا حركته تخائيل المبطلين اشتعلت نيرانه ‏.‏

ومن أتباعهم قوم لهم تطلع إلى التسلط والاستيلاء ولكن الزمان لا يساعدهم فإذا رأوا طريق ومن أتباعهم قوم جبلوا على حب التميز عن العوام فزعموا أنهم يطلبون الحقائق وأن أكثر الخلق كالبهائم وكل ذلك لحب النادر الغريب ‏.‏

ومن أتباعهم ملحدة الفلاسفة والثنوية الذين اعتقدوا الشرائع نواميس مؤلفة والمعجزات مخاريق مزخرفة فأرادوا من يعطيهم شيئًا من أغراضهم مالوا إليه ‏.‏

ومن أتباعهم قوم مالوا إلى عاجل اللذات ولم يكن لهم علم ولا دين فإذا صادفوا من يرفع عنهم الحجر مالوا إليه ‏.‏

على أن هؤلاء القوم لا يكشفون أمرهم إلا بالتدريج على قدر طمعهم في الشخص ‏.‏

وإنما مددنا النفس في شرح حالهم وإن كنا إنما ذكرنا بيتًا من قصيدة لعظم ضررهم على الدين وشياع كلمتهم المسمومة وإنما اجتمعت الأسباب التي ذكرناها في وسط أيامهم وإلا فمعاندوا الشرائع منذ كانت خلق كثير ‏.‏

وقد نبغ قوم منهم فأظهروا إمامة محمد بن الحنفية وقالوا‏:‏ إن روح محمد انتقلت إليه ثم انتقلت منه إلى أبي مسلم صاحب الدعوة ثم إلى أبي مسلم صاحب الدعوة ثم إلى المهدي ثم إلى رجل يعرف بابن القصري ثم خمدت نارهم ثم نبغ منهم في أيام المأمون فاحتال فلم تنفذ حيلته ثم تناصروا في أيام المعتصم وكاتبوا الأفشين وهو رئيس الأعاجم فمال إليهم واجتمعوا مع بابك ثم زاد جمعهم على ثلثمائة ألف فقتل المعتصم منهم ستين ألفًا وقتل الأفشين أيضًا ثم ركدت دولتهم ثم نبغ منهم جماعة وفيهم رجل من ولد بهرام جور وقصدوا إبطال الإسلام ورد الدولة الفارسية وأخذوا يحتالون في تضعيف قلوب المؤمنين وأظهروا مذهب الإمامية وبعضهم مذهب الفلاسفة وجعل لهم رأس يعرف بعبد الله بن ميمون بن عمرو ويقال‏:‏ ابن ديصان القداح الأهوازي وكان مشعبذًا ممخرقًا وكان معظم مخرقته بإظهار الزهد والورع وأن الأرض تطوى له وكان يبعث خواص أصحابه إلى الأطراف معهم طيور ويأمرهم أن يكتبوا إليه الأخبار عن الأباعد ثم يحدث الناس بذلك فيقوي شبههم ‏.‏

وكانوا يقولون‏:‏ إن المتقدمين منهم يستخلفون عند الموت وكلهم خلفاء محمد بن إسماعيل بن جعفر الطالبي وأن من الدعاة إلى الإمام معدًا أبا تميم وإسماعيل أباه وهم المتغلبون على بلاد المغرب ومن استجاب لهم عرفوه أنه إن عمل ما يرضيهم صار إمامًا ونبيًا وانه يرتقي المبتدئ منهم إلى الدعوة ثم إلى أن يكون حجة ثم إلى الإمامة ثم يلحق مرتبة الرسل ثم يتحد بالرب فيصير ربًا ولا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه ‏.‏

إبراهيم بن الهيثم بن المهلب أبو إسحاق البلدي سمع من جماعة وروى عنه النجاد وأبو بكر الشافعي وكان ثقة ثبتًا ‏.‏

توفي في جمادى الآخرة من هذه السنة ‏.‏

إبراهيم بن شبابة مولى بني هاشم وكان شاعرًا مليح النادرة ‏.‏

أنبأنا محمد بن عبد الباقي البزاز عن علي بن المحسن التنوخي عن أبيه قال‏:‏ أخبرني أبو الفرج الأصبهاني قال‏:‏ حدثني حبيب بن نصر المهلبي حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال‏:‏ حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي قال‏:‏ حدثني محمد بن إبراهيم بن شبابة الشاعر البصري فأنزلته علي فجاء ليلة من الليالي وهو مكروب قد هاج فجعل يصيح بي‏:‏ يا أبا أيوب فخشيت أن يكون قد غشيته بلية ‏.‏

فقلت‏:‏ ما تشاء‏!‏ فقال‏:‏ بماذا‏!‏ فقال‏:‏ إليه أشكو فلا يجيب فقلت داره وداوه فقال‏:‏ من أين أبغي دواء دائي وإنما دائي الطبيب فقلت‏:‏ إذًا يفرج الله عز وجل ‏.‏

فقال‏:‏ يا رب فرج إذًا وعجل فإنك السامع المجيب قال‏:‏ ثم انصرف ‏.‏

الحسن بن علي بن مالك بن أشرس بن عبد الله بن منجاب أبو محمد الشيباني المعروف بالأشناني حدث عن يحيى بن معين وغيره ‏.‏

روى عنه‏:‏ ابن مخلد ‏.‏

وتوفي في شعبان هذه السنة وصلى عليه أبو بكر بن أبي الدنيا ‏.‏

قال أبو الحسين بن المنادي‏:‏ عبد الكريم بن الهيثم بن زياد أبو يحيى القطان سافر وجال وسمع سليمان بن حرب وأبا نعيم وأبا الوليد الطيالسي في خلق كثير ‏.‏

روى عنه‏:‏ البغوي وابن صاعد وكان ثقة ثبتًا مأمونًا ‏.‏

توفي في شعبان هذه السنة ‏.‏

عبدة بن عبد الرحيم ‏.‏

كان من أهل الدين والجهاد ‏.‏

أنبأنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أنبأنا أبو بكر البيهقي أخبرنا الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله قال‏:‏ سمعت أبا الحسين بن أبي القاسم المذكر يقول‏:‏ سمعت عمر بن أحمد بن علي الجوهري يقول‏:‏ أخبرني أبو العباس أحمد بن علي قال‏:‏ قال عبدة بن عبد الرحيم‏:‏ خرجنا في سرية إلى أرض الروم فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه ولا أفقه ولا أفرض صائم النهار قائم الليل فمررنا بحصن فمال عنه العسكر ونزل بقرب الحصن فظننا أنه يبول فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن فعشقها فقال لها بالرومية‏:‏ كيف السبيل إليك‏!‏ قالت‏:‏ حين تنصر ويفتح لك الباب وأنا لك ‏.‏

قال‏:‏ ففعل فأدخل الحصن قال‏:‏ فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من الغم كأن كل رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه ثم عدنا في سرية أخرى فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى فقلنا‏:‏ يا فلان ما فعلت قراءتك ما فعل علمك ما فعلت صلواتك وصيامك قال‏:‏ اعلموا أني نسيت القرآن كله ما أذكر منه إلا هذه الآية ‏{‏ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون‏}‏‏.‏

محمد بن أحمد بن الوليد بن محمد بن برد بن يزيد بن سخت أبو الوليد الأنطاكي سمع رواد بن الجراح ومحمد بن كثير الصنعاني ومحمد بن عيسى الطباع وغيرهم ‏.‏

قدم بغداد فحدث بها فروى عنه‏:‏ أبو عبد الله المحاملي وأبو الحسين بن المنادي وأبو بكر الشافعي هو أنطاكي صالح وقال الدارقطني‏:‏ هو ثقة ‏.‏

توفي في هذه السنة راجعًا من مكة ‏.‏

محمد بن جعفر المتوكل على الله يكنى‏:‏ أبا أحمد ولد في ربيع الأول يوم الأربعاء لليلتيم خلتا منه سنة سبع وعشرين ومائتين وأمه أم ولد ولقب الموفق بالله وكان أخوه المعتمد قد عقد له ولاية العهد بعد ابنه جعفر فمات الموفق قبل موت المعتمد بسنة وأشهر وقيل‏:‏ اسمه طلحة وقد ذكرنا وقائعه وحروبه فيما مضى وما فعل بصاحب الزنج بالبصرة وكان له الجيش تحت يده والأمر كله إليه وما جرى له مع عمرو بن الليث ومع ابن طولون وتسمى بعد قتل صاحب الزنج‏:‏ بالناصر لدين الله مضافًا إلى الموفق بالله فكان يخطب له على المنابر بلقبين‏:‏ اللهم أصلح الأمير الناصر لدين الله أبا أحمد الموفق بالله ولي عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين وكان غزير العقل حسن التدبير كريمًا ‏.‏

قال يومًا‏:‏ إن جدي عبد الله بن العباس رضي الله عنهما كان يقول‏:‏ إن الذباب ليقع على جليسي فيغمني ذلك ‏.‏

وهذا نهاية الكرم أنا والله أرى جلسائي بالعين التي أرى أخوتي والله لو تهيأ لي نقلت أسماءهم من الجلساء والندماء إلى الأخوان والندماء ‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قدم أبو أحمد من الجبل إلى العراق وقد اشتد به وجع النقرس حتى لم يقدر على الركوب فاتخذ له سرير عليه قبة فكان يقعد عليه ومعه خادم يبرد رجله بالأشياء الباردة حتى بلغ من أمره أنه كان يضع عليها الثلج ثم صارت علة رجله داء الفيل وكان يحمل سريره أربعون حمالًا يتناوب عليه عشرون عشرون وربما اشتد به أحيانًا فيأمرهم أن يضعوه فقال لهم يومًا‏:‏ قد ضجرتم وبودي أني واحد منكم أحمل على رأسي وآكل وأني في عافية قد أطبق دفتري على مائة ألف مرتزق أسوأ ما فيهم أقبح حالًا مني ‏.‏

توفي بالقصر الحسني ليلة الخميس لثمان بقين من صفر هذه السنة وله تسع وأربعون سنة تنقص شهرًا وأيامًا ‏.‏

قال أبو بكر الصولي‏:‏ حدثني عبد الله بن المعتز قال‏:‏ لما مات الموفق كتب إلي عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يعزيني عنه فقال‏:‏ إني أعزيك بالمنصور الثاني لأني لا أعرف في ولده أشبه به منه ‏.‏